الإخراج الصحفي
الإخراج الصحفي layout علم وفن. وهو يختص بتحويل المادة المكتوبة إلى مادة مطبوعة قابلة للقراءة تؤدي الغاية التي توخاها المخرج، أو بمعنى آخر يختص الإخراج بتوزيع الوحدات الطباعية typographic units (الحروف والعناوين والنصوص والأشكال والصور والخرائط) وترتيبها في حيز الصفحة واختيار ألوانها بأسلوب يغري القارئ بقراءتها ويلفت انتباهه إلى ما فيها. ويكون انتقاء الوحدات الطباعية وإبرازها وفق خطة وإرشادات مدروسة تستند إلى سياسة الصحيفة أو المجلة. فالطباعة تعنى بإعطاء الصفحة شكلها المادي المجرد من حيث المساحة المطبوعة وعدد الأعمدة ونوع الحرف وتسلسل الوحدات ووضوحها وتناسقها طولاً وعرضاً. أما الإخراج فهو فن تحريك الوحدات الطباعية وترتيبها وتوزيعها في عملية محددة لتحقيق غاية معينة. فالإخراج، على هذا النحو، يشتمل على ناحيتين أساسيتين أولاهما عملية إبداعية تستند إلى مبادئ نفسية وجمالية هدفها إعطاء الصحيفة (المجلة) مظهرها الخارجي المناسب، وثانيتهما توافر المعارف والمهارات والوسائل والتقنيات الضرورية لبناء ذلك المظهر وإلباسه الصورة المناسبة. ويقوم الإخراج نظرياً على أساس العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون، وتتيح مثل هذه العلاقة إبراز ما هو عام وخاص بين الشكل والمضمون، على أن يكون للمضمون المحل الرئيس والمحدد. فكل تبدل في المضمون يفرض تبدلاً في الشكل، إلا أن الشكل لا يتبع المضمون آلياً، لأن للشكل دوره الخاص الذي تقيده قواعد داخلية تحدد أثره في المضمون كما تحدد تنوعه. وعليه فإن للإخراج الصحفي قواعده الناظمة التي يؤثر تطبيقها على مضمون الصحيفة سلباً أو إيجاباً، وهي تصنف عادة في قواعد عامة تصلح لكل زمان ومكان، كشرط توافر صحة القراءة مثلاً، وقواعد خاصة ترتبط بمدرسة معينة من مدارس الإخراج.
كذلك فإن الإخراج الصحفي يقوم على مجموعة أسس يمكن تصنيفها في أربع فئات هي: الأسس الصحفية، وهي التي تتصل بتقويم الأخبار والموضوعات ومواد النشر واختيار ما يهم الجمهور منها. والأسس النفسية، وتتصل بمعرفة اتجاهات الرأي العام وعقلية الجماهير وأذواق القراء وعادات القراءة، وتأثير الألوان فيهم. والأسس الفيزيولوجية، وهي تتصل بقوانين الرؤية وحركات العين ومدى استيعابها وظروف التعرض للضوء. والأسس الفنية، وهي التي تسعى إلى تحقيق التوازن والإيقاع والوضوح وسهولة القراءة وتوفير الحيوية والجاذبية والجمال.
وقد فرض تطور الصحافة أن يكون للإخراج الصحفي أسس علمية تعتمد مبادئ نظرية تتعلق بشكل الصحيفة ومكوناتها. إلا أن البحوث النظرية في هذا المجال ما زالت في بداياتها ولا يمكن عدها علماً مستقلاً. أما التطبيق العملي فقطع أشواطاً كبيرة يمكن معها استخلاص قواعد ثابتة للإخراج الصحفي. ومن تلك القواعد تطبيق المبادئ النظرية العامة التي توجه المخرج الصحفي اجتماعياً وعقيدة وجمالياً، ومنها معرفة مبادئ الفنون التطبيقية، ولاسيما الرسوم والتصوير، وعلاقتها بالشكل والمضمون، والإلمام بالمبادئ العامة لتقنيات تكوين الصحيفة وتشكيلها، وهذه المبادئ هي الأساس الذي تقوم عليه مبادئ الإخراج الأخرى.
والإخراج الصحفي كذلك قريب الشبه من الإخراج الموسيقي، فهو يستعير من الفن التعبيري أشياء كثيرة، وله طرائقه التي يؤثر بها في القارئ عاطفياً وجمالياً. ويتوقف اختيار الطريقة المناسبة في الإخراج على مقدرة المخرج الفنية وإتقانه إخراج الصحيفة وبناءها، وعلى مهارته في انتقاء العناصر وتحديد بنيتها وتحقيق الانسجام والتوازن والإيقاع فيما بينها، وكذلك اختيار الخطوط والألوان. فعملية الإخراج ليست تقنية صرفة ولا هي فن صرف، وهذا ما يؤكد اعتماد الإخراج على الظروف التقنية السائدة في زمن معين وعلى الأسلوب أو الأساليب الفنية السائدة في ذلك الزمن. وقد عرف الإخراج الصحفي نزعات واتجاهات فنية مختلفة في تاريخه القصير، فسادت المراحل الأولى من عمر الإخراج النزعة التقنية التي كانت تسعى إلى إبراز إمكانات الطباعة تقنياً. ومع ازدهار الطباعة والصحافة، وبروز شخصية المخرج الصحفي ودوره في العمل الصحفي سادت النزعة الجمالية التي سعت إلى إضفاء مسحة جمالية متميزة على النتاج الطباعي والصحفي، وهنالك أيضاً النزعة «التنميقية» التي تهدف إلى إعطاء الصحيفة - ولاسيما الصحيفة القومية - طابعاً مميزاً، وهنالك أيضاً النزعة «الوظيفية» التي تهدف إلى توظيف عناصر الإخراج كلها نوعاً وكماً وحجماً لتحقيق الغاية من المادة موضوع النشر مع الاستعانة بالنزعات السابقة.
ومع أن الصحافة وجدت منذ ما يزيد على أربعة قرون، فإن الإخراج الصحفي لم يدخل التاريخ إلا منذ قرن واحد فقط. فقد كانت الصحف بادئ ذي بدء مجرد نشرات تجارية موجهة إلى جمهور خاص جداً، وكانت إمكاناتها التقنية محددة تماماً. وكان يتولى الإخراج طباعيون لا يعنيهم إدراك مضمون المادة موضوع النشر ولا الهدف منها، ويقتصر عملهم على توزيع المواد المراد نشرها على الصفحة بحيث تستوعبها تماماً من دون خطة أو هدف. وفي أواخر القرن السابع عشر حدثت تطورات مهمة وتحسينات كبيرة في صناعة الصحافة. فقد تقدمت صناعة مكائن الطباعة وصناعة الحبر والورق تقدماً كبيراً، وأدخلت أساليب حديثة في مجالي التنضيد والتصوير وطورت وسائل النقل والاتصال، وأدى ذلك إلى ازدياد سرعة تواتر الأنباء وحجومها، وأدت الثورة الصناعية واكتشاف الكهرباء وتطور الصناعات الإلكترونية فيما بعد، وكذلك انتشار التعليم إلى تبدل نوعية الجمهور وازدياد عدد القراء وتوزعهم على مساحات شاسعة وفي مناطق متباعدة، كما طرأ تغير على اهتمامات القراء أدى إلى تنوع مواد الصحف ومضاعفة حجم المواد المطلوب نشرها. وكان لظهور الإعلان[ر] وعِظَم دوره ومكانته وتنوع حاجات المعلنين ونفوذهم أثره الكبير في ازدياد انتشار الصحف وتنوعها وزيادة عددها واحترام المنافسة فيما بينها. ومال أصحاب الصحف والصحفيون إلى تقديم صحف مقروءة على نحو سريع ومريح تتجاوب مع متطلبات القارئ المعاصر المتعب المتعجل. وقد أثّر ذلك كله في مضمون الصحف وأسلوب إخراجها، وغدت الصحيفة وسيلة الإعلام الوحيدة التي تعتمد تأثير الكلمة المطبوعة والصورة الملونة في القارئ. وتطور الإخراج الصحفي مع تطور وظيفة الصحيفة في المجتمع، وفرضت على كاهل الإخراج الصحفي مهام متعددة أبرزها إسباغ شخصية متميزة على الصحيفة والتعبير عنها والمحافظة عليها، والإسهام في تحقيق سياسة الصحيفة وإبراز توجهاتها وتقويمها للأحداث والموضوعات وموقفها منها، ويكون ذلك بتبني هيكل طباعي متماسك والإفادة من المساحة المتاحة في الصحيفة أقصى إفادة ممكنة لكثرة المواد وزيادة أهمية الإعلان اقتصادياً، إضافة إلى إعطاء الصحيفة مظهراً جمالياً يجتذب القارئ، وإيجاد علاقة مناسبة بين الشكل والمضمون، والمحافظة على وحدة الأسلوب مع التنوع في الشكل وسهولة القراءة وإبراز ما يشد انتباه القارئ ويعرِّفه الموضوع ويربطه بالصحيفة.
وقد استدعى تنوع مهام الإخراج وجود مخرج صحفي متخصص يملك ثقافة فنية عالية وحساً جمالياً يمكنانه من تلبية الشروط المطلوبة منه وتطبيق أسس الإخراج تطبيقاً صحيحاً. كما اقتضت تلك المهام أن يكون لدى المخرج الصحفي ثقافة صحفية جيدة تمكنه من تقويم الأخبار والمواد وإدراك كنهها والغاية منها في ضوء سياسة الصحيفة. والمخرج الصحفي أقرب ما يكون إلى المصمم الفني، وهو يجمع بين الفن والصحافة، ويجب أن تتوافر لديه القدرة على الإبداع في وقت قصير يتناسب مع ظروف عمل الصحافة اليومية.
فالمخرج هو المهندس الذي يصمم الصفحات ويشرف على تنفيذها، وهو حلقة الوصل بين قسم التحرير والإعلان من جهة والأقسام الفنية والمطبعة من جهة أخرى، وهو يتوخى في عمله وحدة الأسلوب وتنوع الشكل في كل عدد من أعداد الصحيفة بما يتفق مع سياسة الصحيفة والمواد المعدة للنشر والأنباء المطلوب نشرها.
تعطى الصفحة الأولى من الصحيفة المكانة الأولى في الإخراج. فهي الواجهة التي تعبّر عن شخصية الصحيفة وتبين سياستها وتوجهاتها. وثمة مدارس ثلاث رئيسة لإخراج الصفحة الأولى من الصحف اليومية: أولها المدرسة التقليدية التي تقوم على أساس التوازن الطباعي في الشكل. وتتصف هذه المدرسة بالرتوب والبعد عن الإثارة، وفيها مذاهب كثيرة تختلف فيما بينها حول مفهوم التوازن، ومن أبرز هذه المذاهب مذهب التوازن الدقيق ومذهب التوازن النسبي. أما المدرسة الثانية فهي المدرسة المعتدلة التي تقوم على نبذ فكرة التوازن المفتعل والجامد وتطبيق المبادئ الفنية في التعبير مع تحقيق الانسجام بين أجزاء العمل لتخرج الصحيفة وحدة متناسقة متتامة، ومن مذاهب هذه المدرسة مذهب التوازن اللاشكلي الذي يتجنب قيود الشكل الهندسي، ومذهب التربيع الذي يقوم على أساس تقسيم الصفحة أربعة أقسام متساوية، ومذهب الإخراج المختلط وهو مذهب متطرف يتعمد فيه المخرج المركز الذي يقوم على تطبيق نظرية البؤر لإبراز الموضوع الأكثر أهمية من بين سائر موضوعات الصفحة. أما المدرسة الثالثة فهي المدرسة المحدثة، وهي امتداد لحركة التجديد في الفن وفي الطباعة، وتسعى إلى أن تكون الصفحة معبرة عن مضمونها تعبيراً حياً طبيعياً من دون تقيد بأي شكل أو تقليد طباعي. ومن مذاهب هذه المدرسة مذهب التجديد الوظيفي الذي يرى أن الوظيفة هي التي تحدد شكل الصفحة وبنيتها، ومذهب الإخراج الأفقي الذي يعد تطويراً لفكرة حركة العين أفقياً وليس عمودياً في أثناء القراءة، ومذهب الإخراج المختلط وهو مذهب متطرف يتعمد فيه المخرج تحطيم كل قيود الشكل، ولا يرى في الصفحة وحدة متكاملة بل يعالج كل موضوع من موضوعاتها معالجة مستقلة.
تتميز الصفحات الداخلية في الصحيفة من الصفحة الأولى بأنها تجمع بين مواد التحرير والإعلان. ويجب عند إخراج هذه الصفحات تحقيق التوازن والانسجام في عرض موادها وشد انتباه القارئ إلى ما تحويه. ويسهم قسم الإعلان إسهاماً كبيراً في تصميم هذه الصفحات وحجز أماكن الإعلان فيها، وله في ذلك أساليب منوعة، أما المخرج فيختص بتوزيع مواد التحرير على المساحات المتبقية منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق